بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
بَاب بَيَان أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: لَا نُورَثُ
صفحة 1 من اصل 1
بَاب بَيَان أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: لَا نُورَثُ
بَاب بَيَان أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: لَا نُورَثُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ.
وَقَالَ مَرَّةً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا
وَلَا دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ ".
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ ".
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ليسألنه مِيرَاثَهُنَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
فَهَذِهِ إِحْدَى النِّسَاءِ الْوَارِثَاتِ - إِنْ لَوْ قُدِّرَ مِيرَاثٌ - قَدِ اعْتَرَفَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ مَا تَرَكَهُ صَدَقَةً لَا مِيرَاثًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَقِيَّةَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وافقنها علىمَا رَوَتْ، وَتَذَكَّرْنَ مَا قَالَتْ لَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ عِبَارَتَهَا تُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُنَّ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ".
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ قَوْلِ رَسُول الله: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله ابْن مُحَمَّد، حَدثنَا هِشَامٌ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ
وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَهُ مِنْ فَدَكَ وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهِ إِلَّا صَنَعْتُهُ.
قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاة رَسُول الله مِيرَاثَهَا مِمَّا تَرَكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ " فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ وَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ.
قَالَ: وَعَاشَتْ فَاطِمَةُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَذَكَرَ تَمَامَ الحَدِيث.هَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحِهِ عَن ابْن بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَزَادَ: فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا عَلِيٌّ لَيْلًا وَلَمْ يُؤْذِنْ أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا.
وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الْأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبى بكر: إيتنا وَلَا يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ، وَكَرِهَ أَنْ يَأْتِيَهُ عُمَرُ لِمَا عَلِمَ مِنْ شِدَّةِ عُمَرَ.
فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَى أَنْ يَصْنَعُوا بِي؟ وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُمْ.
فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ] وَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكُمُ اسْتَبْدَدْتُمْ بِالْأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ نَصِيبًا، فَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ يَذْكُرُ حَتَّى بَكَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ من قَرَابَتي، وَأما الذى شجر بَيْنكُم فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ فَإِنِّي لَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الْخَيْرِ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا صَنَعْتُهُ.
فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ الْبَيْعَةِ وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ، وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ وَذَكَرَ فَضِيلَتَهُ وَسَابِقَتَهُ، وَحَدَّثَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةٌ عَلَى أَبِي بَكْرٍ.
ثُمَّ قَامَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَبَايَعَهُ.
فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالُوا: أَحْسَنْتَ.
وَكَانَ النَّاسُ إِلَى على قَرِيبا حِين رَاجع الامر الْمَعْرُوف.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ.
فَهَذِهِ الْبَيْعَةُ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَعْدَ وَفَاةِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بَيْعَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلصُّلْحِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمَا وَهِيَ ثَانِيَةٌ لِلْبَيْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوَّلًا يَوْمَ السَّقِيفَةِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ مُجَانِبًا لِأَبِي بَكْرٍ هَذِهِ السِّتَّةَ الْأَشْهُرِ، بَلْ كَانَ يُصَلِّي وَرَاءَهُ وَيَحْضُرُ عِنْدَهُ لِلْمَشُورَةِ، وَركب مَعَه إِلَى ذى الْقِصَّة.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَيَالٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَاحْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ وَجَعَلَ يَقُول: يَا بِأَبِي شِبْهُ النَّبِيِّ * لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيٍّ؟
وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ.
وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ الثَّانِيَةُ اعْتَقَدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُبَايِعْ قَبْلَهَا فَنَفَى ذَلِكَ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا تَقَرَّرَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * وَأَمَّا تَغَضُّبُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ فَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ.
فَإِنْ كَانَ لِمَنْعِهِ إِيَّاهَا مَا سَأَلَتْهُ مِنَ الْمِيرَاثِ فَقَدِ اعْتَذَرَ إِلَيْهَا بِعُذْرٍ يَجِبُ قَبُولُهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ " وَهِيَ مِمَّنْ تَنْقَادُ لِنَصِّ الشَّارِعِ الَّذِي خَفِيَ عَلَيْهَا قَبْلَ سُؤَالِهَا الْمِيرَاثَ، كَمَا خَفِيَ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَخْبَرَتْهُنَّ عَائِشَةُ بِذَلِكَ، وَوَافَقْنَهَا عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ يُظَنُّ بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اتَّهَمَتِ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَهَا بِهِ، حَاشَاهَا وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
كَمَا سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا.وَلَوْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوَجَبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ قَبُولُ رِوَايَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لَهُ فِي ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ غَضَبُهَا لاجل مَا سَأَلت الصّديق، إِذا كَانَتْ هَذِهِ الْأَرَاضِي صَدَقَةً لَا مِيرَاثًا أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا يَنْظُرُ فِيهَا، فَقَدِ اعْتَذَرَ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ يَرَى أَنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا كَانَ يَعْمَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَلِي مَا كَانَ يَلِيهِ رَسُول الله، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدَعُ أَمْرًا كَانَ يَصْنَعُهُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا صَنَعْتُهُ.
قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ.
وَهَذَا الْهِجْرَانُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَتَحَ عَلَى فِرْقَةِ الرَّافِضَةِ شَرًّا عَرِيضًا، وَجَهْلًا طَوِيلًا، وَأَدْخَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِهِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ.
وَلَوْ تَفَهَّمُوا الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لَعَرَفُوا لِلصِّدِّيقِ فَضْلَهُ، وَقَبِلُوا مِنْهُ عُذْرَهُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ قَبُولُهُ.
وَلَكِنَّهُمْ طَائِفَةٌ مَخْذُولَةٌ، وَفِرْقَةٌ مَرْذُولَةٌ، يَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ، وَيَتْرُكُونَ الامور المحكمة الْمقدرَة عِنْدَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَالْأَمْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
بَيَانُ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ لِمَا رَوَاهُ الصِّدِّيقُ وَمُوَافَقَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ فَأَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ نَعَمْ: قَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا.قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ والارض: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ " يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ؟ قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ.
فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ خَصَّ لِرَسُولِ الله فِي هَذَا الفئ بشئ لم يُعْطه أحدا غَيره، قَالَ: " مَا أَفَاء الله على رَسُوله (1) " إِلَى قَوْله " قدير " فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ،
وَلَا اسْتَأْثَرَ بهَا عَلَيْكُم، لقد أعطاكموها وبتها فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ الله، فَعمل بذلك رَسُول الله حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
ثُمَّ قَالَ لَعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ.
فَتَوَفَّى اللَّهُ نبيه، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَبَضَهَا فَعَمِلَ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ وَلِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي وكلمتكما وَاحِدَة وأمركما جَمِيع، حَتَّى جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِي هَذَا يسألنى نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ، فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أكفيكماها (2) .
(1) سُورَة الْحَشْر 7.
(2) البُخَارِيّ كتاب الْفَرَائِض 3 / 227.
(*)
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ صَحِيحِهِ، وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ: فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ وَلِيتُهَا فَعَمِلْتُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ.
ثُمَّ جِئْتُمَانِي فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا لِتَعْمَلَا فِيهَا بِمَا عمل رَسُول الله وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمِلْتُ فِيهَا أَنَا، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
ثُمَّ قَالَ لَهُمَا.
أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ لَا وَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ
السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ: نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أَعَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ " قَالُوا: نَعَمْ.
عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ.
* * * قُلْتُ: وَكَانَ الَّذِي سَأَلَاهُ بَعْدَ تَفْوِيضِ النَّظَرِ إِلَيْهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، هُوَ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمَا النَّظَرَ، فَيَجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَظَرَ مَا كَانَ يسْتَحقّهُ بالارض لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ وَارِثًا.
وَكَأَنَّهُمَا قَدَّمَا: بَيْنَ أَيْدِيهِمَا جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَابْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ شَدِيدَةٌ بِسَبَبِ إِشَاعَةِ النَّظَرِ بَينهمَا، فَقَالَت الصَّحَابَة الَّذين قدموهم بَيْنَ أَيْدِيهِمَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا، أَو أرح أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ.فَكَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَحَرَّجَ مِنْ قِسْمَةِ النَّظَرِ بَيْنَهُمَا بِمَا يُشْبِهُ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ وَلَوْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، مُحَافَظَةً عَلَى امْتِثَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ " فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَأَبَى مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا وَالْعَبَّاسَ اسْتَمَرَّا عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ يَنْظُرَانِ فِيهَا جَمِيعًا إِلَى زَمَانِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا عَلِيٌّ وَتَرَكَهَا لَهُ الْعَبَّاسُ بِإِشَارَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ عُثْمَانَ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.
فَاسْتَمَرَّتْ فِي أَيْدِي الْعَلَوِيِّينَ.
وَقَدْ تَقَصَّيْتُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَلْفَاظَهُ فِي مُسْنَدَيِ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّى وَلِلَّهِ الْحَمْدُ جَمَعْتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجَلَّدًا ضَخْمًا مِمَّا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَآهُ مِنَ الْفِقْهِ النَّافِعِ الصَّحِيحِ، وَرَتَّبْتُهُ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا الْيَوْمَ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا احْتَجَّتْ أَوَّلًا بِالْقِيَاسِ وَبِالْعُمُومِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَأَجَابَهَا الصِّدِّيقُ بِالنَّصِّ على الْخُصُوص بِالْمَنْعِ فِي حق النَّبِي، وَأَنَّهَا سَلَّمَتْ لَهُ مَا قَالَ.
وَهَذَا هُوَ الْمَظْنُونُ بِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ ; حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ قَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ: مَنْ يَرِثُكَ إِذَا مُتَّ؟ قَالَ: وَلَدِي وَأَهْلِي.
قَالَتْ: فَمَا لَنَا لَا نَرِثُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ " وَلَكِنِّي أَعُولُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُولُ وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ.
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيّ، عَن مُحَمَّد ابْن عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذكره فوصل الحَدِيث وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح غَرِيب.فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَأَنْتَ وَرِثْتَ رَسُولَ اللَّهِ أم أَهله؟ فَقَالَ: لَا بل أَهله، فَقَالَت: فَأَيْنَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَطْعَمَ نَبِيًّا طُعْمَةً ثُمَّ قَبَضَهُ جَعَلَهُ لِلَّذِي [يَقُومُ (1) ] مِنْ بَعْدِهِ " فَرَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَالَتْ: فَأَنْتَ وَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ بِهِ.
فَفِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ، وَلَعَلَّهُ روى بِمَعْنى مَا فهمه بعض الروَاة، وَفِيهِمْ مَنْ فِيهِ تَشَيُّعٌ، فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ.
وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ قَوْلُهَا: أَنْتَ وَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب والمظنون بِهَا، وَاللَّائِقُ بِأَمْرِهَا وَسِيَادَتِهَا وَعِلْمِهَا وَدِينِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَكَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَجْعَلَ زَوْجَهَا نَاظِرًا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ فَلَمْ يُجِبْهَا إِلَى ذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، فَتَعَتَّبَتْ عَلَيْهِ بِسَبَب ذَلِك، وهى امْرَأَة من بَنَات آدم تأسف كَمَا يأسفن، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةِ الْعِصْمَةِ مَعَ وُجُودِ نَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُخَالَفَةِ أَبِي بكر الصّديق رضى الله عَنْهَا.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَرَضَّى فَاطِمَةَ وَتَلَايَنَهَا قَبْلَ مَوْتِهَا فَرَضِيَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّاب، حَدثنَا عَبْدَانُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَتَكِيُّ بِنَيْسَابُورَ، أَنْبَأَنَا أَبُو جَمْرَة، عَن إِسْمَاعِيل بن
(1) لَيست فِي ا.
(*)
ابْن أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا مَرِضَتْ فَاطِمَةُ أَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا.
فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا فَاطِمَةُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكِ؟ فَقَالَتْ أَتُحِبُّ أَنْ آذَنَ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَأَذِنَتْ لَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَتَرَضَّاهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ الدَّارَ وَالْمَالَ وَالْأَهْلَ وَالْعَشِيرَةَ إِلَّا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ، وَمَرْضَاتِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
ثُمَّ تَرَضَّاهَا حَتَّى رَضِيَتْ.
وَهَذَا إِسْنَاد جيد قوى، وَالظَّاهِر أَن عَامر الشَّعْبِيَّ سَمِعَهُ مِنْ عَلِيٍّ، أَوْ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْ عَلِيٍّ.
وَقَدِ اعْتَرَفَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْبَيْتِ بِصِحَّةِ مَا حَكَمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ:
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصفار، حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق القاضى، حَدثنَا نصر بن على، حَدثنَا ابْنُ دَاوُدَ، عَنْ فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أَبى طَالب: أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْتُ مَكَانَ أَبِي بَكْرٍ لحكمت بِمَا حكم بِهِ أَبُو بكر فِي فدك.
فَصْلٌ وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الرَّافِضَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِجَهْلٍ، وَتَكَلَّفُوا مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، وَكَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، وَأَدْخَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ.
وَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَرُدَّ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ حَيْثُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ (1) " الْآيَة.
وَحَيْثُ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ زَكَرِيَّا أَنَّهُ قَالَ: " فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (2) ".
(1) سُورَة النَّمْل 16 (2) سُورَة مَرْيَم 5، 6.
(*)واستدلالهم بِهَذَا بَاطِل من وُجُوه.
أَحدهَا أَن قَوْله: " وَورث سُلَيْمَان دَاوُد " إِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ فِي الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، أَيْ جَعَلْنَاهُ قَائِمًا بَعْدَهُ فِيمَا كَانَ يَلِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَتَدْبِيرِ الرَّعَايَا، وَالْحُكْمِ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وجعلناه نَبيا كَرِيمًا كأبيه، وكما جُمِعَ لِأَبِيهِ الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ كَذَلِكَ جُعِلَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا وِرَاثَةَ الْمَالِ، لِأَنَّ دَاوُدَ كَمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَانَ لَهُ أَوْلَاد كَثِيرُونَ يُقَال مائَة، فَلم اقْتصر على ذَلِك سُلَيْمَانَ مِنْ بَيْنِهِمْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ وِرَاثَةَ الْمَالِ؟ إِنَّمَا الْمُرَادُ وِرَاثَةُ الْقِيَامِ بَعْدَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَلِهَذَا قَالَ: " وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ " وَقَالَ: " يأيها النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شئ إِن هَذَا لَهو الْفضل الْمُبين " وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ كَثِيرًا.
وَأَمَّا قِصَّةُ زَكَرِيَّا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ، وَالدُّنْيَا كَانَتْ عِنْدَهُ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَلَدًا لِيَرِثَهُ فِي مَالِهِ، كَيْفَ وَإِنَّمَا كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مَنْ كَسْبِ يَدِهِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَدَّخِرَ مِنْهَا فَوْقَ قوته حَتَّى يسْأَل الله وَلَدًا يَرِثُ عَنْهُ مَالَهُ، إِنْ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنَّمَا سَأَلَ وَلَدًا صَالِحًا يَرِثُهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى السَّدَادِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رب رَضِيا " الْقِصَّة بِتَمَامِهَا.
فَقَالَ: وليا يرثنى وَيَرِث من آل يَعْقُوب " يَعْنِي النُّبُوَّةَ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقَالَ: " والنبى لَا يُورَثُ " وَهَذَا اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ كُلَّ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " نَحن معشر الانبياء لَا نورث ".
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، بِأَحْكَامٍ لَا يُشَارِكُونَهُ فِيهَا، كَمَا سَنَعْقِدُ لَهُ بَابًا مُفْرَدًا فِي آخِرِ السِّيرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُورَثُونَ - وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ - لَكَانَ مَا رَوَاهُ مَنْ ذكرنَا مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ ; أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ مُبَيِّنًا لِتَخْصِيصِهِ بِهَذَا الحكم دون مَا سواهُ.
وَالثَّالِث: أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ كَمَا حَكَمَ بِهِ الْخُلَفَاءُ، وَاعْتَرَفَ بِصِحَّتِهِ الْعُلَمَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَمْ لَا.
فَإِنَّهُ قَالَ: " لَا نورث
مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ.
إِذْ يَحْتَمِلُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَنْ يكون قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ " أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِنْشَاءَ وَصِيَّةٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا نُورَثُ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ جَعْلِهِ مَالَهُ كُلَّهُ صَدَقَةً.
وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ الَّذِي سَلَكَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَدْ يَقْوَى الْمَعْنَى الثَّانِي بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَا تقتسم وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ ".
وَهَذَا اللَّفْظُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ يَرَدُّ تَحْرِيفَ مَنْ قَالَ مِنَ الْجَهَلَةِ مِنْ طَائِفَةِ الشِّيعَةِ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ: مَا تَرَكْنَا صَدَقَةً بِالنَّصْبِ، جَعَلَ مَا نَافِيَةً، فَكَيْفَ يَصْنَعُ بِأَوَّلِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا نُورَثُ؟ وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ: " مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ ".
وَمَا شَأْنُ هَذَا إِلَّا كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: " وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليما " بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: وَيْحَكَ كَيْفَ تصنع بقوله تَعَالَى: " فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمه ربه "! وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ " عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، فَإِنَّهُ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ آيَةِ الْمِيرَاثِ، وَمُخْرِجٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام مِنْهَا، إِمَّا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ.
وَقَالَ مَرَّةً قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا
وَلَا دِرْهَمًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ ".
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ ".
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ليسألنه مِيرَاثَهُنَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
فَهَذِهِ إِحْدَى النِّسَاءِ الْوَارِثَاتِ - إِنْ لَوْ قُدِّرَ مِيرَاثٌ - قَدِ اعْتَرَفَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ مَا تَرَكَهُ صَدَقَةً لَا مِيرَاثًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَقِيَّةَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وافقنها علىمَا رَوَتْ، وَتَذَكَّرْنَ مَا قَالَتْ لَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ عِبَارَتَهَا تُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُنَّ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ".
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ قَوْلِ رَسُول الله: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله ابْن مُحَمَّد، حَدثنَا هِشَامٌ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ
وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَهُ مِنْ فَدَكَ وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهِ إِلَّا صَنَعْتُهُ.
قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاة رَسُول الله مِيرَاثَهَا مِمَّا تَرَكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ " فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ وَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ.
قَالَ: وَعَاشَتْ فَاطِمَةُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَذَكَرَ تَمَامَ الحَدِيث.هَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحِهِ عَن ابْن بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَزَادَ: فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا عَلِيٌّ لَيْلًا وَلَمْ يُؤْذِنْ أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا.
وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجْهٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الْأَشْهُرَ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبى بكر: إيتنا وَلَا يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ، وَكَرِهَ أَنْ يَأْتِيَهُ عُمَرُ لِمَا عَلِمَ مِنْ شِدَّةِ عُمَرَ.
فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَى أَنْ يَصْنَعُوا بِي؟ وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُمْ.
فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ] وَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكُمُ اسْتَبْدَدْتُمْ بِالْأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ نَصِيبًا، فَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ يَذْكُرُ حَتَّى بَكَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ من قَرَابَتي، وَأما الذى شجر بَيْنكُم فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ فَإِنِّي لَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الْخَيْرِ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا صَنَعْتُهُ.
فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ الْبَيْعَةِ وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ، وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ وَذَكَرَ فَضِيلَتَهُ وَسَابِقَتَهُ، وَحَدَّثَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةٌ عَلَى أَبِي بَكْرٍ.
ثُمَّ قَامَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَبَايَعَهُ.
فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالُوا: أَحْسَنْتَ.
وَكَانَ النَّاسُ إِلَى على قَرِيبا حِين رَاجع الامر الْمَعْرُوف.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ.
فَهَذِهِ الْبَيْعَةُ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَعْدَ وَفَاةِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بَيْعَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلصُّلْحِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمَا وَهِيَ ثَانِيَةٌ لِلْبَيْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوَّلًا يَوْمَ السَّقِيفَةِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ مُجَانِبًا لِأَبِي بَكْرٍ هَذِهِ السِّتَّةَ الْأَشْهُرِ، بَلْ كَانَ يُصَلِّي وَرَاءَهُ وَيَحْضُرُ عِنْدَهُ لِلْمَشُورَةِ، وَركب مَعَه إِلَى ذى الْقِصَّة.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَيَالٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَاحْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ وَجَعَلَ يَقُول: يَا بِأَبِي شِبْهُ النَّبِيِّ * لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيٍّ؟
وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ.
وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ الثَّانِيَةُ اعْتَقَدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُبَايِعْ قَبْلَهَا فَنَفَى ذَلِكَ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا تَقَرَّرَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * * وَأَمَّا تَغَضُّبُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ فَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ.
فَإِنْ كَانَ لِمَنْعِهِ إِيَّاهَا مَا سَأَلَتْهُ مِنَ الْمِيرَاثِ فَقَدِ اعْتَذَرَ إِلَيْهَا بِعُذْرٍ يَجِبُ قَبُولُهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ " وَهِيَ مِمَّنْ تَنْقَادُ لِنَصِّ الشَّارِعِ الَّذِي خَفِيَ عَلَيْهَا قَبْلَ سُؤَالِهَا الْمِيرَاثَ، كَمَا خَفِيَ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَخْبَرَتْهُنَّ عَائِشَةُ بِذَلِكَ، وَوَافَقْنَهَا عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ يُظَنُّ بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا اتَّهَمَتِ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَهَا بِهِ، حَاشَاهَا وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
كَمَا سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا.وَلَوْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوَجَبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ قَبُولُ رِوَايَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لَهُ فِي ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ غَضَبُهَا لاجل مَا سَأَلت الصّديق، إِذا كَانَتْ هَذِهِ الْأَرَاضِي صَدَقَةً لَا مِيرَاثًا أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا يَنْظُرُ فِيهَا، فَقَدِ اعْتَذَرَ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ يَرَى أَنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا كَانَ يَعْمَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَلِي مَا كَانَ يَلِيهِ رَسُول الله، وَلِهَذَا قَالَ: وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدَعُ أَمْرًا كَانَ يَصْنَعُهُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا صَنَعْتُهُ.
قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ.
وَهَذَا الْهِجْرَانُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَتَحَ عَلَى فِرْقَةِ الرَّافِضَةِ شَرًّا عَرِيضًا، وَجَهْلًا طَوِيلًا، وَأَدْخَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِهِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ.
وَلَوْ تَفَهَّمُوا الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ لَعَرَفُوا لِلصِّدِّيقِ فَضْلَهُ، وَقَبِلُوا مِنْهُ عُذْرَهُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ قَبُولُهُ.
وَلَكِنَّهُمْ طَائِفَةٌ مَخْذُولَةٌ، وَفِرْقَةٌ مَرْذُولَةٌ، يَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ، وَيَتْرُكُونَ الامور المحكمة الْمقدرَة عِنْدَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَالْأَمْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
بَيَانُ رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ لِمَا رَوَاهُ الصِّدِّيقُ وَمُوَافَقَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ فَأَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَذِنَ لَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ نَعَمْ: قَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا.قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ والارض: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ " يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ؟ قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ.
فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ خَصَّ لِرَسُولِ الله فِي هَذَا الفئ بشئ لم يُعْطه أحدا غَيره، قَالَ: " مَا أَفَاء الله على رَسُوله (1) " إِلَى قَوْله " قدير " فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ،
وَلَا اسْتَأْثَرَ بهَا عَلَيْكُم، لقد أعطاكموها وبتها فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ الله، فَعمل بذلك رَسُول الله حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
ثُمَّ قَالَ لَعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ.
فَتَوَفَّى اللَّهُ نبيه، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَبَضَهَا فَعَمِلَ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ وَلِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي وكلمتكما وَاحِدَة وأمركما جَمِيع، حَتَّى جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِي هَذَا يسألنى نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ، فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أكفيكماها (2) .
(1) سُورَة الْحَشْر 7.
(2) البُخَارِيّ كتاب الْفَرَائِض 3 / 227.
(*)
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ صَحِيحِهِ، وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ: فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ وَلِيتُهَا فَعَمِلْتُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ.
ثُمَّ جِئْتُمَانِي فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا لِتَعْمَلَا فِيهَا بِمَا عمل رَسُول الله وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمِلْتُ فِيهَا أَنَا، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
ثُمَّ قَالَ لَهُمَا.
أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ لَا وَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ
السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ: نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أَعَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ " قَالُوا: نَعَمْ.
عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ.
* * * قُلْتُ: وَكَانَ الَّذِي سَأَلَاهُ بَعْدَ تَفْوِيضِ النَّظَرِ إِلَيْهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، هُوَ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمَا النَّظَرَ، فَيَجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَظَرَ مَا كَانَ يسْتَحقّهُ بالارض لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ وَارِثًا.
وَكَأَنَّهُمَا قَدَّمَا: بَيْنَ أَيْدِيهِمَا جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَابْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ شَدِيدَةٌ بِسَبَبِ إِشَاعَةِ النَّظَرِ بَينهمَا، فَقَالَت الصَّحَابَة الَّذين قدموهم بَيْنَ أَيْدِيهِمَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا، أَو أرح أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ.فَكَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَحَرَّجَ مِنْ قِسْمَةِ النَّظَرِ بَيْنَهُمَا بِمَا يُشْبِهُ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ وَلَوْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، مُحَافَظَةً عَلَى امْتِثَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ " فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَأَبَى مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا وَالْعَبَّاسَ اسْتَمَرَّا عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ يَنْظُرَانِ فِيهَا جَمِيعًا إِلَى زَمَانِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا عَلِيٌّ وَتَرَكَهَا لَهُ الْعَبَّاسُ بِإِشَارَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ عُثْمَانَ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.
فَاسْتَمَرَّتْ فِي أَيْدِي الْعَلَوِيِّينَ.
وَقَدْ تَقَصَّيْتُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَلْفَاظَهُ فِي مُسْنَدَيِ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّى وَلِلَّهِ الْحَمْدُ جَمَعْتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجَلَّدًا ضَخْمًا مِمَّا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَآهُ مِنَ الْفِقْهِ النَّافِعِ الصَّحِيحِ، وَرَتَّبْتُهُ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا الْيَوْمَ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا احْتَجَّتْ أَوَّلًا بِالْقِيَاسِ وَبِالْعُمُومِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَأَجَابَهَا الصِّدِّيقُ بِالنَّصِّ على الْخُصُوص بِالْمَنْعِ فِي حق النَّبِي، وَأَنَّهَا سَلَّمَتْ لَهُ مَا قَالَ.
وَهَذَا هُوَ الْمَظْنُونُ بِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ ; حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ قَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ: مَنْ يَرِثُكَ إِذَا مُتَّ؟ قَالَ: وَلَدِي وَأَهْلِي.
قَالَتْ: فَمَا لَنَا لَا نَرِثُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ " وَلَكِنِّي أَعُولُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُولُ وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ.
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيّ، عَن مُحَمَّد ابْن عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذكره فوصل الحَدِيث وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح غَرِيب.فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَأَنْتَ وَرِثْتَ رَسُولَ اللَّهِ أم أَهله؟ فَقَالَ: لَا بل أَهله، فَقَالَت: فَأَيْنَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَطْعَمَ نَبِيًّا طُعْمَةً ثُمَّ قَبَضَهُ جَعَلَهُ لِلَّذِي [يَقُومُ (1) ] مِنْ بَعْدِهِ " فَرَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَالَتْ: فَأَنْتَ وَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ بِهِ.
فَفِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ، وَلَعَلَّهُ روى بِمَعْنى مَا فهمه بعض الروَاة، وَفِيهِمْ مَنْ فِيهِ تَشَيُّعٌ، فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ.
وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ قَوْلُهَا: أَنْتَ وَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب والمظنون بِهَا، وَاللَّائِقُ بِأَمْرِهَا وَسِيَادَتِهَا وَعِلْمِهَا وَدِينِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَكَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَجْعَلَ زَوْجَهَا نَاظِرًا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ فَلَمْ يُجِبْهَا إِلَى ذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، فَتَعَتَّبَتْ عَلَيْهِ بِسَبَب ذَلِك، وهى امْرَأَة من بَنَات آدم تأسف كَمَا يأسفن، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةِ الْعِصْمَةِ مَعَ وُجُودِ نَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُخَالَفَةِ أَبِي بكر الصّديق رضى الله عَنْهَا.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَرَضَّى فَاطِمَةَ وَتَلَايَنَهَا قَبْلَ مَوْتِهَا فَرَضِيَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّاب، حَدثنَا عَبْدَانُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَتَكِيُّ بِنَيْسَابُورَ، أَنْبَأَنَا أَبُو جَمْرَة، عَن إِسْمَاعِيل بن
(1) لَيست فِي ا.
(*)
ابْن أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا مَرِضَتْ فَاطِمَةُ أَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا.
فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا فَاطِمَةُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكِ؟ فَقَالَتْ أَتُحِبُّ أَنْ آذَنَ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَأَذِنَتْ لَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَتَرَضَّاهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ الدَّارَ وَالْمَالَ وَالْأَهْلَ وَالْعَشِيرَةَ إِلَّا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ، وَمَرْضَاتِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
ثُمَّ تَرَضَّاهَا حَتَّى رَضِيَتْ.
وَهَذَا إِسْنَاد جيد قوى، وَالظَّاهِر أَن عَامر الشَّعْبِيَّ سَمِعَهُ مِنْ عَلِيٍّ، أَوْ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْ عَلِيٍّ.
وَقَدِ اعْتَرَفَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْبَيْتِ بِصِحَّةِ مَا حَكَمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ:
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصفار، حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق القاضى، حَدثنَا نصر بن على، حَدثنَا ابْنُ دَاوُدَ، عَنْ فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أَبى طَالب: أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْتُ مَكَانَ أَبِي بَكْرٍ لحكمت بِمَا حكم بِهِ أَبُو بكر فِي فدك.
فَصْلٌ وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الرَّافِضَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِجَهْلٍ، وَتَكَلَّفُوا مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، وَكَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، وَأَدْخَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ.
وَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَرُدَّ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ حَيْثُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ (1) " الْآيَة.
وَحَيْثُ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ زَكَرِيَّا أَنَّهُ قَالَ: " فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (2) ".
(1) سُورَة النَّمْل 16 (2) سُورَة مَرْيَم 5، 6.
(*)واستدلالهم بِهَذَا بَاطِل من وُجُوه.
أَحدهَا أَن قَوْله: " وَورث سُلَيْمَان دَاوُد " إِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ فِي الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، أَيْ جَعَلْنَاهُ قَائِمًا بَعْدَهُ فِيمَا كَانَ يَلِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَتَدْبِيرِ الرَّعَايَا، وَالْحُكْمِ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وجعلناه نَبيا كَرِيمًا كأبيه، وكما جُمِعَ لِأَبِيهِ الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ كَذَلِكَ جُعِلَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا وِرَاثَةَ الْمَالِ، لِأَنَّ دَاوُدَ كَمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَانَ لَهُ أَوْلَاد كَثِيرُونَ يُقَال مائَة، فَلم اقْتصر على ذَلِك سُلَيْمَانَ مِنْ بَيْنِهِمْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ وِرَاثَةَ الْمَالِ؟ إِنَّمَا الْمُرَادُ وِرَاثَةُ الْقِيَامِ بَعْدَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَلِهَذَا قَالَ: " وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ " وَقَالَ: " يأيها النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شئ إِن هَذَا لَهو الْفضل الْمُبين " وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ كَثِيرًا.
وَأَمَّا قِصَّةُ زَكَرِيَّا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ، وَالدُّنْيَا كَانَتْ عِنْدَهُ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ وَلَدًا لِيَرِثَهُ فِي مَالِهِ، كَيْفَ وَإِنَّمَا كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مَنْ كَسْبِ يَدِهِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَدَّخِرَ مِنْهَا فَوْقَ قوته حَتَّى يسْأَل الله وَلَدًا يَرِثُ عَنْهُ مَالَهُ، إِنْ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنَّمَا سَأَلَ وَلَدًا صَالِحًا يَرِثُهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى السَّدَادِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رب رَضِيا " الْقِصَّة بِتَمَامِهَا.
فَقَالَ: وليا يرثنى وَيَرِث من آل يَعْقُوب " يَعْنِي النُّبُوَّةَ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقَالَ: " والنبى لَا يُورَثُ " وَهَذَا اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ كُلَّ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " نَحن معشر الانبياء لَا نورث ".
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، بِأَحْكَامٍ لَا يُشَارِكُونَهُ فِيهَا، كَمَا سَنَعْقِدُ لَهُ بَابًا مُفْرَدًا فِي آخِرِ السِّيرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُورَثُونَ - وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ - لَكَانَ مَا رَوَاهُ مَنْ ذكرنَا مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ ; أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ مُبَيِّنًا لِتَخْصِيصِهِ بِهَذَا الحكم دون مَا سواهُ.
وَالثَّالِث: أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ كَمَا حَكَمَ بِهِ الْخُلَفَاءُ، وَاعْتَرَفَ بِصِحَّتِهِ الْعُلَمَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ أَمْ لَا.
فَإِنَّهُ قَالَ: " لَا نورث
مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ.
إِذْ يَحْتَمِلُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَنْ يكون قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ " أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِنْشَاءَ وَصِيَّةٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا نُورَثُ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ جَعْلِهِ مَالَهُ كُلَّهُ صَدَقَةً.
وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ الَّذِي سَلَكَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَدْ يَقْوَى الْمَعْنَى الثَّانِي بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَا تقتسم وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ ".
وَهَذَا اللَّفْظُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ يَرَدُّ تَحْرِيفَ مَنْ قَالَ مِنَ الْجَهَلَةِ مِنْ طَائِفَةِ الشِّيعَةِ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ: مَا تَرَكْنَا صَدَقَةً بِالنَّصْبِ، جَعَلَ مَا نَافِيَةً، فَكَيْفَ يَصْنَعُ بِأَوَّلِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا نُورَثُ؟ وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ: " مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ ".
وَمَا شَأْنُ هَذَا إِلَّا كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: " وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليما " بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: وَيْحَكَ كَيْفَ تصنع بقوله تَعَالَى: " فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمه ربه "! وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ " عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، فَإِنَّهُ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ آيَةِ الْمِيرَاثِ، وَمُخْرِجٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام مِنْهَا، إِمَّا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
مواضيع مماثلة
» بَاب بَيَان أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يَحُجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً
» ذكر من قَالَ إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام حَجَّ مُتَمَتِّعًا
» تابع ذكر من قَالَ إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام حَجَّ مُتَمَتِّعًا
» بَاب ذكر عبيده عَلَيْهِ السَّلَام وَإِمَائِهِ وَذِكْرِ خَدَمِهِ وَكُتَّابِهِ وَأُمَنَائِهِ،
» بَاب صفة خُرُوجه عَلَيْهِ السَّلَام مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ
» ذكر من قَالَ إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام حَجَّ مُتَمَتِّعًا
» تابع ذكر من قَالَ إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام حَجَّ مُتَمَتِّعًا
» بَاب ذكر عبيده عَلَيْهِ السَّلَام وَإِمَائِهِ وَذِكْرِ خَدَمِهِ وَكُتَّابِهِ وَأُمَنَائِهِ،
» بَاب صفة خُرُوجه عَلَيْهِ السَّلَام مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس يونيو 27, 2013 8:37 pm من طرف ابو بلال
» غذاء الملكات
الخميس يونيو 27, 2013 8:34 pm من طرف ابو بلال
» أمراض يعالجها العسل
الخميس يونيو 27, 2013 8:28 pm من طرف ابو بلال
» فوائد عسل النحل
الخميس يونيو 27, 2013 8:27 pm من طرف ابو بلال
» تركيب العسل
الخميس يونيو 27, 2013 8:25 pm من طرف ابو بلال
» مواصفات العسل الطبيعي :
السبت أبريل 27, 2013 8:00 pm من طرف ابو بلال
» العشرة المبشرون بالجنة
السبت أبريل 27, 2013 7:38 pm من طرف ابو بلال
» حقوق المرأة في الإسلام
الثلاثاء أبريل 23, 2013 8:21 am من طرف lolita lola
» حتى الكدب يرفضه النمل سبحان من خلق وسوى وابدع
الأحد أبريل 21, 2013 9:41 am من طرف lolita lola